قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ وَمَنْ دَعَا إلَيْهِ هُدِيَ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَمَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ وَمَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ. قَالَ تَعَالَى : ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى.وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى. قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً. قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ (طـه:123-126)الشرح :
لاحظتم أن القارئ قرأ هذه الآيات دون تلاوة وهذه هي السنة ، فبعض المحاضرين وبعض الخطباء إذا تكلم في أثناء الخطبة وفي أثناء الكلام وأورد آية على سبيل الاستدلال يغير صوته عند ذكر الآية أو عند ذكر محل الشاهد فيقرأها كما يقرأ القرآن ، ولم تكن هذه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم . والعلماء – رحمهم الله – بينوا أن هناك فرقاً بين مقامين :
1. بين مقام إيراد الآية على سبيل التلاوة والقراءة .
2. وبين إيراد الآية على سبيل الاستشهاد والاستدلال .
ففي المقام الثاني قالوا : لا يغير فيها القارئ صوته ولا يقرأها كما يقرأ في تلاوة القرآن ، قالوا : لأن الأحاديث التي وردت وورد فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أورد آية أو بعض آية أثناء الحديث لم يذكر الصحابة رضوان الله عليهم أنه غيَّر صوته ، وللسيوطي رسالة ضمن كتاب ( الحاوي ) (2/297)، اسمها "القذاذة في تحقيق محل الاستعاذة" قرر فيها الفرق بين قراءة القرآن للتلاوة وبين إيراد آية منه للاحتجاج، قلت: ومن ذلك هنا تغيير الصوت بالتلاوة عند إرادة القراءة دون الاحتجاج. وهي من البدع الشائعة التي ينبغي الحذر منها.
أقول :
أورد المصنف هذه الآيات للتدليل على أن القرآن الكريم كتاب هداية وكتاب إعجاز وأن من طلب الهدى في غير القرآن الكريم أضله الله.
أما الآية الأولى : فهي قوله تعالى : فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى*وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى* قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً*قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (طـه:123-126) .
في هذه الآيات يذكر الله سبحانه وتعالى أنه سيأتي آدم وذريته من الله سبحانه وتعالى رسل (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) يأتي هؤلاء الرسل بالهدى ليخرجوا الناس من الضلال إلى النور ، وتعهد الله سبحانه وتعالى لمن اتبع هذا الهدى أن لا يضل ولا يشقى ، ومن أعرض عن هذا الهدى فلم يتبعه ولم يأخذ به ، أو كفر به وأنكره فإنه سيعيش عيشة ضنكاً . قال العلماء : عيشة ضنكاً في الحياة الدنيا ، وعيشة ضنكاً في البرزخ ، وعيشة ضنكاً ستكون له في الآخرة (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) فالعيشة الضنك هنا المراد منها : عيشته في الدنيا وفي البرزخ ، وفي الآخرة هي عيشة ضنك أيضاً . صورتها قال: (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً*قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) . هذه الآية فيها مسائل :
1- فيها بيان أن القرآن كتاب هداية وأن لا هدى ولا سعادة ولا خلاص من الشقاء للناس إلا باتباع هذا الهدى، فمن ترك الاهتداء بكتاب الله سبحانه وتعالى وبشرعه سبحانه وتعالى فإنه في ضلال وفي شقاء وفي تعاسة.
2- قوله في هذه الآية : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) الإعراض عن ذكر الله المراد منه: الإعراض عن كتاب الله.
فقوله : (عَنْ ذِكْرِي ) هل هو من باب إضافة الاسم إلى المفعول ؟ أو من باب إضافة الاسم إلى الفاعل ؟ أو إضافة اللفظ إلى الاسم؟
قال العلماء : الصواب أنه من باب إضافة اسم الفاعل إلى الاسم، ولا يصح أن تكون الإضافة إلى المفعول.
ما الفرق بين هذه الثلاثة ؟
** إذا قلت في قوله تعالى : (عَنْ ذِكْرِي ): المراد به : إضافة إلى اسم المفعول؛ فيصير المعنى: من أعرض عن أن يذكر الله يعني بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل ونحو ذلك، فـ (ذكري) أي ما يُذكر به سبحانه، وهو قول العبد: سبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا إله إلا الله.
** ولو قلنا : الإضافة من باب الإضافة إلى اسم الفاعل؛ لصار المعنى : من أعرض عن ما ذكره الله، وهو كلامه، الذي هو القرآن العظيم.
** ولو قلنا : إن المعنى من باب الإضافة إلى الاسم فيصير اسم ( الذِّكْر ) هو اسم للكتاب ابتداء فيكون المعنى : من أعرض عن كتاب الله أو عن شرع الله.
فأي المعاني هي المرادة هنا ؟
هل المراد في هذه الآية : من أعرض عن أن يذكر الله ؟
أو المراد في هذه الآية : من أعرض عن شرع الله وعن كتاب الله وعن ما أنزله الله سبحانه وتعالى من كتاب يكون به الهداية ؟
قال العلماء : المعنى الثاني والثالث هو المراد ويدخل فيه ضمناً المعنى الأول ، ولو قلنا : إن المعنى الأول هو المراد لصار دخول المعنى الثاني والثالث فيه بُعْد؛
وعليه فإن الإضافة من باب إضافة الاسم إلى اسم الفاعل أو إلى الاسم .
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي ) أي : عن كتابي الذي أنزلته ، أو أعرض عن شرع الله أو دين الله أو كتاب الله .
وقد جاء في القرآن تسمية القرآن بالذكر قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9) ، سُمي القرآن بالذكر ، فيصير ( عن ذكر الله ) يعني : عن كتاب الله سبحانه وتعالى .
3- الإعراض عن ذكر الله يطلق على ثلاث معان :
الأول: الإعراض بمعنى : الجحود .
الثاني: الإعراض بمعنى التكذيب.
والفرق بين الجحد والتكذيب : أن الجحود يكون باللسان، والقلب يعتقد صدق ما يكذب به، كما قال تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (النمل:14).
والتكذيب يكون باللسان والقلب، فهو لا يصدق بلسانه ولايعتقد في قلبه كذلك؛ فمن صدق بقلبه وكذب بلسانه فهذا الجحود، ومن كذب بلسانه وبقلبه فهذا التكذيب.
الثالث: الإعراض بمعنى التولي والإدبار عن شرع الله.
وهذه الثلاثة الإعراض فيها كفر أكبر مخرج من الملة.
الرابع: الإعراض بمعنى : عدم العمل بما فيه على وجه المعصية، فإن من خالف شرع الله وارتكب المعاصي والمحرمات ولم يفعل الأوامر والواجبات فقد أعرض عن ذكر الله ولكنه في هذه الصورة لم يكفر كفراً أكبر، ما دام الذي تركه ليس مما يكفر تاركه. والإعراض عن ذكر الله هنا صاحبه من أهل الفسوق ومن أصحاب المعاصي .
الخامس: الإعراض عن ذكر الله بمعنى : عدم ذكر الله باللسان أو بالقلب، وهو التفكر في خلق الله وعظمته سبحانه.
ما المراد في هذه الآية من أنواع الإعراض ؟
قال العلماء : الإعراض في الآية يشمل الأنواع الأربعة الأولى، التي نجملها في قسمين: إعراض على سبيل الكفر، وإعراض على سبيل المعصية؛ بجحود أو تكذيب، ومن أعرض عن ذكري بمعصية أو بترك امتثال لطاعة أو بفعل لمنهي فإن له معيشة ضنكاً.
4- قوله : (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) .
قال العلماء : هذا من ضمن الأدلة التي يوردها أهل العلم على عذاب القبر ، فإن الآية ظاهرة في أن هناك معيشة ضنكاً قبل عذاب الآخرة قبل يوم القيامة وليس قبل القيامة إلا الدنيا والبرزخ ، والمشاهد أن بعض الناس من أهل المعاصي يستدرجه الله سبحانه وتعالى فلا يكون في معيشته نوع من الضنك فأين يصير الضنك إذاً ؟ الجواب : الضنك في عذاب القبر، ولذلك ذكروا في تفسير هذه الآية عن السلف رضوان الله عليهم أنهم فسروا (العذاب الضنك) : بما يكون من عذاب في القبر.