العقل البشري، مناط العلم وأساس حركة الإنسان في حياته، إذ هو المنظم والموجهة والقائم بأمر فعل الواعي الآدمي، لذا كان وجوده في حياة الإنسان وجوداً خاصاً في حد ذاته، وكرماً ربانيا يتصف بأفضل الفضائل على بني آدم، قال تعالى: ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ً) الإسراء/70
.. إنه التكريم والتشريف العظيم، حيث يتفق المفسّرون على أن التكريم إنما هو بالعقل والمنطق وتسخير كل شيء لهذا الكائن العجيب.
إن العقل هو الدعامة الأساسية التي بنيت عليها الكثير من مقوّمات تكريم الله للبشر، ومع العقل كان سر الحضارة الإنسانية وقوة الاجتماع البشري عبر الزمن، فبدون العقل لا يكون هناك إنسان، ولا تقدم ولا رقي ولا وعي بأي شيء كان.
وتفيد المعاجم اللغوية بأن العقل يؤدي الإدراك والفهم والتدبر والمعرفة الخطأ، واللغة تسبغ على العقل سمة إدراك الأشياء وتحدد وظيفته في الوعي بما يثبت الحقيقة، مع تضمين التأني في القيام بعمله، وهو التدبر والتفكر، أي عملية التعقل التي تتوجب أحياناً الصبر ، والعقل بملكته الفطرية يؤدي وظيفته لكونه مجبولاً على العلم بضروريات اكتساب المعرفة، وهي المعرفة الأولية والمنطقات الأولى التي بدونها يستحيل أن ينتظم العقل وفق معرفة ما.
محدودية العقل
إن كون العقل شيء مخلوق، ففي هذا دلالة على أن قدراته لها منتهى وحدود، وبحكم ذلك لا سبيل لاتصافه بالقدرة المطلقة، فهي من صفات الخالق تعالى، ولذلك يجب أن يقف العقل عن البحث في الأمور التي فوق طاقته، مثل البحث عن ذات الله وفي الروح وأمور أخرى حفاظاً وصيانة له ورحمة، قال تعالى: ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً).
وقال تعالى: ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو).
ومما سبق نجد الأتي:
-إن الآية الأولى أحالت أمر الروح إلى الله سبحانه وليس إلى العقل كما يحدث في آيات أخرى مماثلة لأن فهم ذلك فوق طاقة العقل.
-إن الآية الثانية أحالت أمر الساعة إلى الله تعالى وليس إلى العقل.
ومما مضى يفهم أن عقل الإنسان محدود مهما أعطي من قوة لتسخير موارد الأرض وتحويلها إلى طائرات وصواريخ ومركبات فضائية تجوب الكواكب.
العقل والقدرات التنفيذية الخلاقة
العقل البشري نعمة من نعم الله تعالى إذ أمر الله عباده بالتفكير والتدبر في آيات عديدة من القرآن الكريم، قال عز وجل في التدبر: ( أفلا يتدبرون القرآن، أم على قلوب أقفالها).
وقال تعالى في التفكر: (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه أن ذلك لآيات لقوم يتفكرون).
إن العقل البشري، هذه القدرة الخلاّقة، جعل الإنسان يحس بقيمة الحياة من حوله ..
والعقل دفع الإنسان منذ بداية قدومه إلى الأرض، إلى طرح الأسئلة واقتراح الإجابات عليها .. وكذلك جعل الإنسان يتطلع إلى ما حوله والبحث عن الحقيقة، حقيقة وجوده في هذا الكون الضخم.
إن المهام والأعمال مهما كبرت أو صغرت فهي بحاجة عند تنفيذها إلى خطة، والخطة لا تتولد إلا من فكرة أو عدة أفكار .. والفكرة والأفكار تنبع من العقل الإنساني .. تلك النعمة التي رزق الله بها البشر، وعند التفكير في العمل ما يتولد عنه (خطة) .. قد تكون تلك الخطة كلمة واحدة وقد تكون مليون كلمة أو أكثر .. لكنها تبقى في مضمونها خطة.
والخطة أو الخطط في حد ذاتها هي الوسيلة العملية والمنطقية لمقارعة تحدي الحياة في شتى صورها .. بداية من أدارة شؤون منزل صغيرة، ينجح فيه من كان التفكير الجيد والتخطيط السليم هما القاعدة في إدارته، إلى إدارة شؤون المجتمع برمته، حيث تزداد أهمية التفكير والتخطيط وتتضاعف مرات كثيرة.
وأهمية التفكير والتخطيط في الصراع الإنساني تبدو جلية واضحة .. من المبارزة العقلية بين إنسان و إنسان آخر ..والتساؤل هنا .. من يا ترى يحقق نسبة كبيرة من النجاح؟ القوة العضلية أم القوة العقلية؟ ونجد أن الإجابة ترتكز على القوة ونقاء وجودة التفكر أولاً .. فعضلات قوية مجردة من التفكير، قد تكون نتائجها سلبية وعواقبها وخيمة.
أما عندما يكون للعقل دور كبير في عملية التحدي في صراع الإنساني، نجد أن العملية الفكرية تنحو المنحى الصحيح .. وهذا لا يعني أن العملية الفكرية والخطط الناتجة عنها من القوة العضلية لحل بعض المعضلات. ولكنها تدخل ضمن مفهوم العملية الفكرية التي على ضوئها تصميم الخطة أو الخطط.
ومما لا شك فيه أن التفكير الناجح لا يأتي من فراغ .. ولا ينبع من مصدر سطحي، فعملية التفكير تكون قوية عندما تعتمد على العالم، وعندما تعتمد على الحقيقة والواقعية .. وإن الفكر الإنساني نفسه يتكأ على قدرات ذاتية متمركزة في بناء الإنسان الجسمي والنفسي، وهنا قد تختلف القدرة الفكرية من شخص إلى آخر .. ولكن لابد من القول إن القدرة الفكرية للإنسان تتوقف عند حد معين، ما لم يتم تغذية العقل بالمعلومات وبكسب التجارب والخبرات، لذا نجد إن كثيراً من الدراسات والبحوث العملية قد تطرأ على بعضها تعديل أو تغيير شامل، ذلك نتيجة لتوافر معلومات ساعدت على معرفة الحقيقة، وهناك الكثير من الأمراض التي كانت في زمن ما أمراضاً خطيرة أو مستعصية ويعجز العقل البشري عن إيجاد الدواء لها، وأصبحت اليوم بفضل تقدم وتطور العلم من الأمراض التي يمكن علاجها، وهناك أمثلة كثيرة في شتى مجالات الحياة.
وفي عصرنا الحاضر علينا أن نسأل أنفسنا بوضوح، كيف نفكر؟
إن العملية الفكرية السليمة تعتمد على النتائج النهائية للخطط، وليس على المراحل المتلاحقة التي قد تفشل ثم تنجح وهكذا، وعلى النتائج النهائية يجب تكريس الجهود والإمكانات.
لابد لنا أن نعود إلى الخطوة الأولى في بناء عملية التفكير (المنزل) ولابد لنا أن يمارس الطفل، حسب سنوات عمره، تفكيره في معالجة أموره، ينبغي أن يحصل على مساحة من التفكير داخل الأسرة ليضع أسئلة إلى والديه أو من حوله، ومن المهم جداً أن يحصل إلى إجابات واقعية تتناسب مع سنوات عمره، حتى تساعده على شحذ قدراته في التفكير وهكذا.
ويأتي بعد ذلك الدور في بناء عملية التفكير (المدرسة) في السنوات الأولى من حياة الطفل، والمدرسة في عناصر (المعلم والمادة والمنهج والنظام التعليمي التربوي والبيئة المحيطة). هي عملية في غاية التعقيد، وفي غاية الأهمية في بناء القدرة الفكرية في عقول النشئ، وعندما تنصهر تلك العناصر في بوتقة (المعرفة والكفاءة والرغبة والقدرة الذهنية والحسية والنفسية والإخلاص والمسؤولية والتجرد من الذات) تكون النتيجة ايجابية وقوية المفعول، وعندما تنشد تلك العناصر بالتفاعل الناجح، وتكون النتيجة سلبية وضعيفة بقدر درجات الفشل.
إذن تكون المحصلة إن التفكير قدرة في العقل البشري، وزيادة قوة التفكير تأتي بتغذية العقل شحذه بطرق عملية عديدة، وكلما كانت وسائل تغذية العقل الإنساني في سنوات الطفل الأولى،نما هذا الفكر والتطور، وبالمقابل كلما انحصر التفكر في حدود مقيدة تعتمد على التكرار والمحاكاة والحفظ المطلق في إطار العملية التعليمية، اضمحلت قوة التفكير.
وعندما يكون التفكير، عاجزاً عن استيعاب العلوم للنمو في سنوات الطفل الأولى، يكون من الصعوبة أن ينمو في سنوات الهرم والشيخوخة.
بعد كل هذا، كيف نخطط؟
والتخطيط يأتي نتيجة لعملية التفكير، وعندما يكون التفكير سطحياً، يكون التخطيط سطحياً أيضا، وعندما يكون التفكير متناقصاً لا يعتمد على الحقيقة، ويأتي التخطيط متناقضاً أيضا وبه من الهفوات الكثير، وعندما لا يتسع التخطيط، والأسلوب العلمي، في معالجة الأمور، يأتي التخطيط عشوائياً وتكون النتائج سلبية.
أما إذا كان التخطيط ينبع من قدرات علمية، استطاع المخطط وضع الحلول، وكلما كان دور العلم والعقل في التحليل والمقارنة يغلب على دور المؤثرات الخارجية _كالعاطفة_ تكون النتائج عكسية.
وهذا لا يعني إطلاقا أن يتخلى الإنسان عن العاطفة التي هي جزء من تكوينه وحياته وتعامله اليومي، لكن الأمور يجب أن تضع في مكانها الحقيقي في معالجة العلمية.
ولمزيد من المتابعة يرجى الدخول إلى مجموعة التنمية البشرية
http://groups.google.com/group/tanmiabashria